كتب محمود محمد سويدان :

 هذا المقال هو مشهد متخيَّل من وقائع تحقيق المحاكم البلجيكية بين العامين 2001 و 2003  في مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها العدو الصهيوني إثر اجتياحه للبنان عام 1982 م وراح ضحيتها اكثر من ألفيْ شهيد لبناني وفلسطيني . في العام 2001 أخبر المرجع القضائي المحامي الأستاذ شبلي الملاط الشهود من أهالي ضحايا المجزرة المروّعة أن بإمكانهم الإدعاء على مرتكبها مجرم الحرب ارييل شارون أمام المحاكم البلجيكية التي تقبل دعاوى بجرائم ضد الإنسانية ولو حصلت خارج اراضي بلجيكا، تولت منظمة التحرير الفلسطينية نقل العديد من الشهود الناجين من المجزرة الى بروكسل ومنهم الشاهدة

سميحة عباس حجازي من بلدة حاريص الجنوبية حيث رفعوا الدعوى في 18 حزيران 2001 وحولوها  الى محكمة الاستئناف العليا في بلجيكا في 12 شباط 2003 .

  ولكن الحكومة البلجيكية في استجابةً منها للضغوط الأميركية حصرت مجال اختصاص المحكمة بالجرائم ضد الإنسانية في الحالات التي يكون فيها المتهم مواطناً بلجيكياً أو مقيماً في بلجيكا وقت ارتكاب الجريمة ورفعت مشروع قانون بذلك صادق عليه مجلس النواب في 24 أيلول 2003  فأمرت المحكمة في اليوم نفسه بوقف الدعوى بحق مجرم الحرب شارون وعاد الشهود أدراجهم والمثير للاستغراب والتعجب أن هذا التعديل في القانون جرى استناداً الى نصوص قانونية تعود الى العام 1873 تحصر المحاكمة بالمواطنين البلجيكيين، أي ان الحكومة البلجيكية عادت 130 عاماً الى الوراء لتعديل قوانين المحكمة لوقف التحقيق بالمجزرة وعدم ملاحقة اي مجرم حرب إسرائيلي. وهنا أبدأ بكتابة هذا المشهد ، صحيح أنه متخيَّل ولكنه من رحم الوقائع التي جرت :

-  بروكسل ــ بلجيكا 12 شباط 2003 تفتتح جلسة الاستماع الى الشهود ،يطلب  القاضي الشاهدة سميحة حجازي ،ينده مباشر المحكمة : الشاهدة سميحة، تحضر الأخيرة امام القاضي وتدلي بإفادتها :

ـ إسمي سميحة عباس حجازي من بلدة حاريص من جنوبٍ مقاوم لوطن لم يساوم ، لبنانية الهوية ، عربية الانتماء للقضية. تقرأ في خطوط الكفين خارطة الطريق من بيروت الى القدس ومن أقاصي الهرمل حتى جبل الكرمل  ومن جبال النار في ياطر( التسمية الإسرائيلية للبلدة ) ومعها كفرا وحاريص وتبنين نحو بيت لحم والناصرة وجنين . تلمح في عيوني الحزينة أملاً بعودة ، لن يحول دونها التطبيع والردة. في الجسم ندوب جراح حفرتها حرب لبنان الأهلية. زوجي الأول اسمه  احمد ايوب ، استشهد في تظاهرة الصيادين التي قادها الشهيد القومي العربي معروف سعد نصير الكادحين في 6 آذار 1975 . أما الزوج الثاني بعد استشهاد  زوجي الأول فهو حسن إدلبي من حيفا في فلسطين تم خطفه في النبعة ولم يعرف عنه شيء حتى اليوم،  نبضات قلبي تعد أعوام الألم والحسرة لفقد صبية وشاب في مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها مجرم الحرب شارون ومعاونوه . وأدلت الأم الجريحة بمشاهداتها عن تلك الواقعة مما يندى له جبين الإنسانية.

القاضي : بعد سماع أقوال الشاهدة ترفع الجلسة ويحدد   تاريخ 24 أيلول 2003 موعداً لتلاوة الحكم  بشأن القضية.

  في التاريخ المذكور افتتحت الجلسة والأمل معقود على المحكمة لإصدار حكم العدالة بحق دولة الكيان الغاصب "إسرائيل" التي تعامل منذ إنشائها كاستثناء فوق القوانين الدولية. بدأ القاضي بتلاوة حيثيات الحكم : بعد الاطلاع على أقوال الشهود جميعاً وحيث أنه تبين للمحكمة بالدليل القاطع أن موجات الحر والعواصف والفيضانات ناهيك عن الجفاف وانتشار الأمراض والأوبئة وصولاً الى حرائق الغابات إضافة الى انبعاثات الكربون المؤدية الى اتساع ثقب الأوزون، تشكل مخالفة صريحة لمقررات قمة الأرض في ريو دي جانيرو  1992 بخصوص المناخ. وحيث أن ذلك يهدد الحياة على سطح الكوكب الأزرق ــ تقاطع سميحة وسط  دهشة الحاضرين وذهولهم وارتفاع اصواتهم : ما علاقة هذا بدعوانا يا حضرة القاضي؟ يجيب : ربما تقصدين سخونة الكوكب، أطلب من قلم المحكمة أن يدوّن دعوى جديدة  للشاهدة عن ارتفاع درجة حرارة الأرض ــ سميحة : بل ارتفاع درجة حرارة عقلك يا سيدي القاضي/ - القاضي : أهددك بالطرد خارج قاعة المحكمة. ترد سميحة وقد ادركت مؤامرة وقف الدعوى : لقد طرد اسيادك شعباً بكامله خارج وطنه منذ العام 1948 وشردوه في أصقاع الأرض. يا لها من عدالةٍ خادعة ، حقاً هو عالمٌ تملأه الذئاب،وتسوده شريعة الغاب، الحق لديه مسلوب والعدل فيه مصلوب ثم خرجت ومعها رفاقها الشهود وهي تقول : كانت حفيدتي تردد  قول جبران خليل جبران في درس الاستظهار العربي :

 

                         إن عدلَ الأرضِ ثلجٌ         إن رأته الشمسُ ذابَ 

 

بل يصدق القول "إن عدل الغربِ ثلجٌ" (إنتهى المشهد المتخيَّل)..

  وعادت الحاجة أم علي سميحة أدراجها الى أرض لبنان عاشت بقية حياتها متنقلةً ما بين منزلها في صبرا في ضواحي بيروت ومنزل كريمتها المتأهلة في بلدة ياطر. وفي التاسع من كانون الأول 2022 رحلت  سميحة عن دنيانا ولم تسامح ،لم  تهادن، لم تعترف، ولم تصالح، وتركت للأحفاد إرثاً من النضال اللبناني ــ الفلسطيني المشترك. وقبل أن يستريح القلب كتبت على ورقة لأحفادها والأجيال وصيتها الأخيرة : ليس من سبيل لاسترجاع الحق وصون القضية سوى الدم والشهادة والبندقية، ثم لـفّـت بالورقة مفتاح بيتٍ في حيفا قديم قِدَمَ تاريخ فلسطين لم يملّ انتظار عودة صاحب الدار زوجها الشهيد . وعلى أكف المحبين شيعت الحاجة أم علي سميحة حجازي الى مثواها الأخير في تراب ياطر الذي احتضنها ومعها في طيات ثوبها الأبيض أوراق دعواها التي ردها قاضي الأرض لترفعها الى قاضي السماء.

محمود محمد سويدان  03-01-2023